بين العُرف والقانون.. هل تنتصر نساء باكستان في معركتها ضد القتل باسم الشرف؟

ما زالت تحصد مئات الأرواح سنويًا

بين العُرف والقانون.. هل تنتصر نساء باكستان في معركتها ضد القتل باسم الشرف؟
احتجاجات ضد انتهاكات حقوق المرأة في باكستان

في مشهدٍ يتصدّع له الضمير الإنساني، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرًا مقطع فيديو يوثّق جريمة قتل مزدوجة لامرأة ورجل في إقليم بلوشستان بجنوب غرب باكستان، فقط لأنهما تجرّآ على الزواج ضد رغبة عائلتيهما، لم يكن هذا المقطع مجرد لقطة مأساوية عابرة؛ بل تجسيدًا حيًّا ومستفزًا لظاهرة القتل بدافع الشرف التي ما زالت تحصد مئات الأرواح سنويًا، وتكشف عن أزمة عميقة تتجاوز حدود الجريمة لتطول بنية المجتمع والثقافة والقانون.

وبحسب السلطات المحلية، تم اعتقال 11 مشتبهاً بهم بعد ظهور الفيديو الذي التُقط في منطقة صحراوية نائية، يُظهر التسجيل المرأة وهي تُعطى نسخة من القرآن الكريم، ثم تخاطب الرجل قائلة: "تعال امشِ معي سبع خطوات، وبعد ذلك يمكنك إطلاق النار عليّ"، لم تبكِ المرأة ولم تطلب الرحمة، وقفت بثبات مروّع، قبل أن يخترق الرصاص جسدها فتسقط أرضًا، يتبعها الرجل قتيلًا هو الآخر، بينما يتابع رجال من الحضور إطلاق النار على الجثتين.

رغم بشاعة الجريمة، فإنّ ما يضاعف الفجيعة هو سياقها، فالجريمة ارتُكبت تنفيذًا لقرار مجلس قبَلي محلي، فيما يبدو أنه محكمة ميدانية تستند إلى تقاليد عريقة تعطي الجماعة سلطة مطلقة على الأفراد، خاصة النساء، متجاوزةً القانون الرسمي والدستور.

الأرقام تحكي فصولًا دامية

تشير إحصاءات لجنة حقوق الإنسان الباكستانية إلى تسجيل ما لا يقل عن 405 جرائم قتل بدافع الشرف في باكستان خلال عام 2024 وحده، معظم ضحاياها من النساء، هذه الأرقام ليست جديدة، بل تمثل استمرارًا لنمط متجذّر؛ ففي تقارير سابقة للّجنة نفسها ومنظمات دولية مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش"، تراوحت معدلات جرائم الشرف في باكستان بين 500 و1000 حالة سنويًا على مدى العقدين الماضيين، مع وجود تقديرات غير رسمية بأن العدد الحقيقي قد يكون أعلى بكثير بسبب عدم الإبلاغ أو تسجيل بعض الجرائم على أنها حوادث.

ما يثير القلق أن مرتكبي هذه الجرائم غالبًا ما يكونون من أقارب الضحية، آباء، إخوة أو أزواج، يتذرّعون بالدفاع عن شرف العائلة، وهو مفهوم فضفاض يتكئ على معايير صارمة لسلوك المرأة في المجتمع.

وتعود جذور ظاهرة جرائم الشرف في باكستان إلى التقاليد القَبَلية والاجتماعية العميقة التي ترى في جسد المرأة شرف العائلة كلها، هذه الرؤية تجد دعائمها في أنظمة عدلية موازية مثل "الجرغا" أو "المجلس القبَلي"، الذي يملك سلطة إصدار أحكام بالإعدام على من يُشتبه في "تلويث سمعة العائلة".

ورغم تجريم هذه الممارسات في القانون الباكستاني وتعديلاته المتتالية –خصوصًا التعديل الصادر عام 2016 الذي سعى لإلغاء الثغرة القانونية التي كانت تسمح للعائلة بالعفو عن القاتل وبالتالي الإفلات من العقوبة– لا تزال المشكلة مستمرة، إذ كثيرًا ما يُسجَّل العفو من جانب أولياء الدم (الذين يكونون غالبًا هم نفسهم القتَلة) مما يُفرغ القانون من مضمونه.

تواطؤ الصمت والخوف

ترى منظمات حقوق الإنسان أن جذر الأزمة لا يقف فقط عند حدود القانون أو العُرف، بل يمتد إلى مناخٍ مجتمعي يُبرّر الجريمة بدعوى الدفاع عن القيم التقليدية، فقد انتقدت تقارير "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" انتقدت مرارًا ما وصفته بتراخي السلطات في ملاحقة الجناة، والتسامح القضائي الذي يُغلفه خطاب ثقافي يشرعن العنف ضد النساء.

وفي تقريرها لعام 2024، أعربت لجنة حقوق الإنسان في باكستان عن قلقها من فشل السلطات في اجتثاث هذه الجرائم، مطالبةً بحماية النساء من منظومات العدالة القَبَلية غير الرسمية، وتعزيز برامج التوعية المجتمعية لتغيير المفاهيم الثقافية حول الشرف.

وتُظهر دراسة لجامعة لاهور للعلوم الإدارية أن أكثر من 80% من جرائم الشرف تتعلق بخيارات النساء في الزواج أو العلاقات العاطفية، فالمرأة هنا تُختزل إلى كونها حاملًا رمزيًا لشرف العائلة، وكل تصرف خارج الإطار المسموح –حتى لو كان اختيار شريك الحياة– يُعتبر جريمة جماعية تستوجب العقاب الدموي.

ولا يقتصر الأمر على المناطق الريفية أو القَبَلية؛ بل تُسجَّل حالات أيضًا في المدن الكبرى، وإن كانت بوتيرة أقل، هذا يؤكد أن الظاهرة ليست حكرًا على الجغرافيا، بل مرتبطة ببنية ثقافية ترى في المرأة مصدر تهديد دائم لصورة العائلة في المجتمع.

أصوات مقاومة.. لكنها لا تكفي

ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات محلية لتمكين النساء وحمايتهن، منها دور إيواء سرّية للنساء المهدَّدات بالقتل، وجهود بعض النشطاء في الإعلام والدراما الباكستانية لتسليط الضوء على هذه الجرائم. كما قُدّمت مشاريع قوانين لتشديد العقوبات وإلغاء أي مسار للتسوية أو العفو.

غير أن هذه الجهود، بحسب مراقبين، تصطدم بحاجز الثقافة المجتمعية المتجذّرة، وبتردّد الساسة في تحدّي التقاليد خوفًا من فقدان القاعدة الشعبية، خاصة في المناطق القَبَلية التي تملك ثقلًا انتخابيًا.

يرى خبراء حقوق الإنسان أن الحل لا يمكن أن يكون قانونيًا فقط، فلا بد من الجمع بين: إصلاح شامل للقوانين بما يضمن عدم الإفلات من العقاب تحت أي مسمى، ودعم برامج التعليم والإعلام لتغيير الصورة النمطية للمرأة، وتمكين النساء اقتصاديًا واجتماعيًا لتقليل اعتمادهن على العائلة الممتدة، وإشراك رجال الدين المعتدلين والقيادات القَبَلية في حملات التوعية، لتفكيك المفاهيم المغلوطة حول الشرف.

دم لا يجفّ

تبقى قصة الزوجين اللذين قُتلا في بلوشستان عنوانًا لمأساة لم تنتهِ بعد، في كل عام تُراق دماء نساء كثيرات باسم الشرف، وتُطوى قضاياهن في ملفاتٍ لا تصل إلى المحاكم أحيانًا، وبين سطور هذه الجرائم تتجسّد معركة كبرى، بين تقاليد تأبى الرحيل، وحق أساسي في الحياة والاختيار والكرامة.

ما لم يواجه المجتمع الباكستاني نفسه بشجاعة مع هذا الإرث الدموي، ستبقى الرصاصة التي تُطلق باسم الشرف جاهزةً دائمًا لحصد مزيد من الأرواح.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية